أكد اتفاق الفقهاء قاطبة على تحريم الربا الصريح، والذي تصل إليه البنوك بالطرق "التقليدية". حتى الذين أباحوا الاكتتاب هم يحرمون هذا النوع من الربا، لكنهم رأوه تابعا ومغمورا في جنب المعاملات المباحة. إذن لا خلاف بينهم في تحريم هذا النوع الواضح من الربا، وإن اختلفوا في هذه الشركة المختلطة أو تلك. المعضلة ليست في هذا النوع من الربا الذي يأتي واضحا بيِّنا، فإن الجميع يعلم أنه من كبائر الإثم، بمن فيهم أولئك الذين يتعاملون معه، وسيظل وخز ضمائرهم يلاحقهم وهم يعلمون أنهم اقترفوا جرما عظيما. المعضلة الحقيقية هي في نوعٍ آخر من الربا، استكمل جرم الربا وضرره وظلمه، لكنه غيَّر ثيابه وهندامه، وتوارى خلف أشكالٍ وصور يسمونها إسلامية وما هي بإسلامية لو كانوا يفقهون.
إن الذي حرم الظلم في الربا، وقال: "فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)"[سورة البقرة] لا يمكن أن يبيح ظلما أكبر وأعظم منه يجري باسم الإسلام. إن الربا المحرم لا يمكن أن يتطهر بتغيير شكله وصورته الظاهرة فحسب مع بقاء حقيقته وظلمه وضرره. وكل عقد ربوي فهو إيذانٌ بحرب الله ورسوله سواء توصلوا إليه بالطرق (التقليدية) أو توصلوا إليه بالطرق (التحايلية). وللأسف الشديد..أن الجدل الدائر حول اكتتاب أحد البنوك اقتصر على المعاملات الربوية الواضحة، وأغفل ما هو أشد وأخطر. أغفل الربا المتأسلم، الذي حافظ على حقيقة الربا وظلمه وضرره لكنه تستَّر بصورةٍ وشكلٍ إسلامي!
وإذا انفتح هذا الباب من التساؤل والجدل، فإنه سيطال البنوك الإسلامية حين تتعامل مع (الربا المتأسلم). وأخطر أنواع الربا هذا النوع من الربا، فإنه يجمع بين جريمة الربا وجريمة التحايل. والتحايل على المحرمات طريقةٌ متبعة أئمتها أصحاب السبت، "وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَة خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَة لِّلْمُتَّقِينَ (66)" [سورة البقرة].
لم يكن المسخ لأنهم صادوا يوم السبت، فإنهم عملوا ما هو أعظم ولم يمسخوا، لكنهم مسخوا بسبب هذا التحايل، فإن التحايل باب خطير إذا انفتح على أمة اقترفت العظائم بالحيل الفقهية. والتحايل لا يروج على أئمة الدين والاجتهاد، إنما يروج على من ضعفت ديانته أو ضعف نظره واجتهاده.
إن المسلم بفطرته ودينه يعلم أنه لا فرق بين الربا الواضح والربا المتأسلم إلا في الشكل والصورة، بل يجد في أحيان كثيرة أن ما يقع من ظلم في الحيل الربوية أعظم من الظلم الواقع في الربا الصريح! ويرى ابن القيم أن الحيل الربوية "أعظم مفسدة من الربا الصريح، ومفسدة الربا البحت الذي لا يتوصل إليه بالسلاليم أقل بكثير".
إن الربا حُرّم في شريعة الإسلام والشرائع السابقة لظلمه وشؤمه وضرره، وستلحق هذه المفاسد والموبقات بمن تعامل معه كفاحا من غير ستار، ومن تعامل معه بالحيلة والمخادعة. ومن الغبن العظيم أن يظل (الربا المتأسلم) ثاويا في بنوكنا دون نكير أو تصحيح. يتعاطى الظلم والضرر ويتترس عن أعيننا بأشكال وصور وأسماء لا تغني عند الله شيئا.